غزّة لم تعُد صالحة للعيش!
«قطاع غزّة سيصبح غير صالح للعيش في أقل من خمس سنوات». هذا ما خلص إليه تقرير صادر عن الأمم المتّحدة، نُشر في شهر أيلول الحالي، وتناول الواقع الاجتماعي والاقتصادي في قطاع غزّة، بعد ثماني سنوات من الحصار الإسرائيلي للقطاع، فضلاً عن ثلاث حروب متتالية شنّتها إسرائيل على غزّة خلال السنوات الست الماضية.
وبحسب التقرير الأممي، فإن عدوان العام 2014 وحده، أدّى إلى تهجير قُرابة نصف مليون شخص، وتدمير أجزاء واسعة من قطاع غزة.
التقرير الذي صدر في الوقت الذي بدأت فيه آليّات الجيش المصري ضخّ المياه في حفر عميقة على حدود غزّة، لإغراق ما تبقّى من أنفاق التهريب، أشار إلى أنّ الحرب الأخيرة على غزة أزالت عمليّاً ما تبقّى من «الطبقة الوسطى» في القطاع، وجعلت مُعظم السكّان يعتمدون على المساعدات الدوليّة، حيث انخفض إجمالي الناتج المحلي في غزة 15 في المئة، وسجّلت البطالة نسبة قياسية بلغت 44 في المئة، وبات 72 في المئة من السكان في حال «عوز غذائي».
وتبدو الآفاق الاقتصاديّة في قطاع غزّة، بعد مرور أكثر من عام على العدوان الأخير، قاتمة إلى حد بعيد، وذلك بسبب حالة عدم الاستقرار السياسي، والانقسام الداخلي بين حركتي «فتح» و «حماس»، وقلّة المساعدات التي تأتي للسكّان من جهات دوليّة عدّة، إضافة إلى بطء عجلة إعادة إعمار ما دمّرته الحرب، وتفشّي الفقر والبطالة في صفوف الفلسطينيين، ما جعل الكثير منهم يُفكّر جديّاً بمسألة الهجرة من قطاع غزّة، والبحث عن بدايات جديدة، في ظل المؤشرات السلبيّة للواقع المعيشي في القطاع.
اقتصاد يئن!
الخبير الاقتصادي، مدير الإعلام لدى ‏الغرفة التجارية في غزة‏‏، ماهر الطبّاع، يؤكّد أنّ الاحتلال الإسرائيلي ارتكب «مجازر» بحقّ الاقتصاد الفلسطيني إبان العدوان الأخير على غزّة، وتعمّد استهداف المنشآت الاقتصاديّة الحيويّة في القطاع بشكل مُباشر، موضحاً أنّ المنشآت الصناعية الاستراتيجية ذات رؤوس الأموال الكبيرة، والتي تُشغّل عدداً كبيراً من العمال في قطاع غزّة تعرّضت غالبيّتها لدمار كُلّي، أو جزئي، ومُقدّراً الخسائر الاقتصادية في القطاعات كافة بخمسة مليارات دولار.
ويُضيف الطباع، في حديث الى «السفير» أن «قطاع غزة كان يعاني قبل الحرب من أوضاع اقتصادية كارثية، حيث وصلت نسبة البطالة إلى 41 في المئة، إضافة إلى تكدّس ما يُقارب 180 ألف عاطل عن العمل، فيما وصلت نسبة الفقر إلى 38 في المئة. ومن المتوقع بعد الحرب أن ترتفع نسبة البطالة لتجاوز 50 في المئة، وينضمّ ما يزيد عن 30 ألف شخص إلى مستنقعات البطالة، بالتالي سيتجاوز إجمالي عدد العاطلين عن العمل 210 آلاف شخص، إضافة لمؤشرات ارتفاع معدلات الفقر إلى 60 في المئة».
ويعتبر الطبّاع أن هذه الأرقام المهولة جاءت نتيجة تداعيات الحرب، وتدمير المنشآت الاقتصادية في القطاعات كافة، ما أدّى إلى تسريح عدد كبير جداً من العمال الذين كانوا يعملون في هذه المصانع، بالإضافة إلى عدد كبير آخر سيفقد عمله بطريقة غير مباشرة، سواء كانوا موزعين يعتمدون على المصانع، أو تجاراً.
وبشأن مُتطلّبات إعادة إعمار ما دمّره الاحتلال خلال الحرب على قطاع غزّة، يشدد الطبّاع على أن إعادة الإعمار مرهونة برفع الحصار كاملاً عن قطاع غزّة، مؤكداً أن قطاع غزّة في حاجة الى مليارات الدولارات حتى تتم إعادة ما تمّ تدميره في القطاعات كافة، سواء كانت اقتصادية، أو مساكن ومنشآت حكومية وخاصة وعامة.
آليّة الإعمار مُتعثّرة
وبرغم من أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي أُبرم في السادس والعشرين من آب العام 2014، بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، قد نصّ على السماح الفوري بإعادة إعمار قطاع غزّة الذي دُمّر في الحرب، بما في ذلك دخول مواد البناء اللازمة لذلك، إلا أن ثمّة مخاوف جمّة بتأخّر الإعمار لسنوات عدّة، بسبب آليّة الأمم المتحدة المتبعة حاليّاً في قطاع غزّة لتوزيع الأسمنت ومواد البناء على المتضررين، إضافة إلى ما تفرضه خطة الأمم المتحدة من قيود وتنسيق بين الأطراف المعنيّة.
الآليّة التي تتبعها الأمم المتحدة حاليّاً لتوزيع الأسمنت في القطاع تتم من خلال الاحتفاظ بكميّات الأسمنت ومواد البناء التي تسمح إسرائيل بإدخالها للقطاع ـ خصيصاً للمتضررين من الحرب ـ في مخازن تابعة للأمم المتحدة، قبل أن يجري توزيعها على أصحاب المنازل المتضررة، بعد التدقيق بشكل مكثّف في هوياتهم وحالة منازلهم، لكنّ أصحاب المنازل المدمّرة، وخبراء في مجال الإنشاءات يؤكدون لـ«السفير» أن الكميات المُدخلة لا تفي بالحدّ المطلوب لإعادة الإعمار.
ولا تدخل مواد البناء اللازمة لإعادة بناء ما دمّره الاحتلال خلال العدوان الأخير على غزة إلا بصورة مقننة جداً، وكل ما يدخل هو خاص بأصحاب المنازل المتضررة، وليس للقطاع العام. ويرى أصحاب البيوت المدمّرة أن هذه الآلية لن تنجح في إعادة بناء منازلهم التي مضى على دمارها أكثر من عام، ما دفع بعضهم الى استخدام ألواح الخشب والحديد والفلين لبناء منازل أخرى بدلاً عن تلك التي فقدوها خلال الحرب، وذلك لإيواء عائلاتهم التي ذاقت مُرّ التشرّد لفترة طويلة.
أمام هذا التعثّر في آليّة الإعمار، وغياب الخطط والاستراتيجيّات لإعمار كامل وشامل لكل المنشآت التي تدمّرت في الحرب، شرعت قطر مؤخراً في تنفيذ أولى مراحل عمليّة إعادة بناء قطاع غزّة، وذلك ببناء ألف وحدة سكنيّة كانت قد دُمّرت كُليّاً إبان عدوان صيف العام 2014، بتمويل من المنحة القطريّة التي رُصدت في مؤتمر المانحين، والتي بلغت قُرابة مليار دولار.
لكنّ رئيس المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار، محمد اشتيّة، يشدد على أنّه «من دون رفع الحصار عن غزّة لن يكون هناك إعمار حقيقي»، لافتاً إلى أنّ نحو 100 ألف نازح ما زالوا يعيشون في أماكن مؤقتة، بعد عام كامل على العدوان».
وينتقد اشتية، في حديثه الى «السفير»، آلية الأمم المتحدة لإدخال مواد البناء إلى القطاع، معتبراً أنها تشكل إحدى معوقات الإعمار، إلى جانب الحصار الإسرائيلي، وسياسات الممولين بتغييب الحكومة – حكومة التوافق في رام الله - عن غزة. وفق قوله.
ويرى اشتية أنّ آلية الأمم المتحدة خلّفت «سوقاً سوداء» لبيع مواد البناء وشرائها، وبرّأت إسرائيل من حصارها على غزة، وأصبح العالم يتعامل مع هذا الأمر على أنه أمر واقع، وخلق منهجيّة لاستمرار الحصار، لخدمة الأمن الإسرائيلي، مؤكداً أن «آلية إعادة الإعمار تثبت فشلها يومياً، فاليوم يباع طن الأسمنت في غزة بألفين شيكل في السوق السوداء، في حين أن سعره 800 شيكل».
ويحذر اشتية، بناء على تقارير صادرة في غزة، من انه «في حال استمرت سياسة إدخال مواد البناء بهذه الوتيرة، فقد يستغرق إعمار غزة أكثر من 70 عاماً، فكمية الأسمنت التي تدخل القطاع لا تزيد عن 500 طن يومياً، في حين المطلوب لإعادة الإعمار أكثر 6 آلاف طن يومياً، و4 آلاف طن للتنمية والمنشآت الخاصة، أي أن إجمالي المطلوب يومياً للتنمية والإعمار 10 آلاف طن من الأسمنت، وما يتم إدخاله هو 5 في المئة من الاحتياج فقط».
ويعزو رئيس المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار تعطُّل إعمار قطاع غزة الى عدم قدرة حكومة الوفاق الوطني على القيام بواجبها، خاصة أنها لا تستطيع بسط سيطرتها وسلطتها على القطاع، في ظل وجود سلطة «حماس» السابقة، وتولّيها زمام الأمور فعليّاً، خاصة في المعابر، محمّلاً حركة «حماس» مسؤولية كبيرة عن تعطيل عمل الحكومة وبسط سلطتها على قطاع غزة، وبالتالي تعطيل عملية إعادة الاعمار.
ويرى أن المبالغ التي أُعلن عنها في مؤتمر إعمار غزة في القاهرة لم تكن كبيرة كما روّج لها، فالمتبرعون التقليديون لم يقدّموا تبرعات سخيّة، وخاصة الدول الأوروبية، كما أن معظم الدول خلطت بين تبرعاتها السنوية المعتادة وبين التبرع لإعادة إعمار غزة.
ويوضح أنه «بعد عزل الأرقام عن بعضها والتدقيق في المبالغ المتبرّع بها، تبين أن ما رُصد لقطاع غزة هو 2.7 مليار دولار، وليس 5.4 مليار كما أُعلن، كما تفيد الأرقام بأن من بين المبالغ المخصصة لقطاع غزة مليار دولار من قطر و500 مليون من السعودية و200 من الإمارات و200 من الكويت و100 من الجزائر»، مُشيراً إلى أن المانحين أرادوا معادلة سياسية، لم تتوفر حتى الآن، ليتم الدفع من خلالها، وبذلك ألقى المؤتمر الكرة في ملعب السلطة الفلسطينية التي لم تُمنح إلا القليل من الإمكانيات المادية منذ انعقاد المؤتمر، في حين قُدم لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين حوالي 200 مليون دولار فقط.
على أيّ حال، يرى الفلسطينيّون في قطاع غزّة أن عدوان الصيف الماضي زاد تعقيد الأزمات التي يُعاني منها القطاع منذ سنوات، وتفاقمها، فمعدّلات البطالة والفقر في نمو مُتسارع، هو الأعلى عالميّاً. وبرغم ترقّب السكّان لتنفيذ بنود اتفاق وقف إطلاق النار، الذي مضى عليه عام كامل من دون تنفيذ أيّ منه فعليّاً على أرض الواقع، كإقامة الميناء البحري والمطار، إلا أنهم يجزمون أن إسرائيل غير معنيّة بتحقيق انفراجة حقيقيّة في قطاع غزّة، أو ترك السكّان يختنقون من الحصار في الوقت نفسه!

قطاع التعليم
بحسب وزارة التربية والتعليم في غزّة، فإن 24 مدرسة دُمّرت بالكامل خلال العدوان الأخير، كما دُمّرت أكثر من 120 مدرسة جزئياً. وفي المدارس التي تشرف عليها «الأونروا»، طالت الأضرار أكثر من 70 مدرسة. أما في قطاع التعليم العالي، فقد طال الدمار 11 مؤسسة، بالإضافة إلى العشرات من رياض الأطفال. كما طال التدمير محتويات هذه المدارس والمؤسسات من مختبرات وأجهزة وأثاث، بما في ذلك مخزن وزارة التربية الرئيس للأثاث.
ومن بين أكثر من 2100 شهيد سقطوا خلال العدوان، هناك 22 شهيداً، وعشرات الجرحى من العاملين في وزارة التربية والتعليم العالي، ومئات الشهداء وآلاف الجرحى من الأطفال وطلبة المدارس.
ووفق إحصائيّات رسميّة، فإنّ 25 مدرسة حكوميّة، و90 مدرسة تابعة لوكالة الغوث «الأونروا» استُخدمت كمراكز إيواء للنازحين من العدوان الإسرائيلي، وقد بلغ عدد النازحين 460 ألف شخص، ما أدى إلى تأجيل بدء العام الدراسي العام الماضي، مع العلم أن هذه المدارس تعرضت للأضرار من استخدامات النازحين، كونها غير مؤهلة للاستخدام كمراكز للإيواء.
وخلال فترة العدوان، استهدف الاحتلال الإسرائيلي 6 مدارس يتخذها السكان النازحون مراكز إيواء، بالرغم من قيام وكالة الغوث بإبلاغ سلطات الاحتلال مرات عدة بمواقع هذه المدارس وإحداثياتها الهندسية، حيث استشهد 39 شخصاً، وأصيب 290 آخرون داخل هذه المدارس أو في محيطها، فيما استشهد 19 موظفاً يتبعون لوزارة التربية والتعليم العالي، بالإضافة الى إصابة عدد آخر منهم.
أمّا على صعيد الطلاب، فقد استشهد وجُرح الآلاف منهم في مختلف المراحل التعليمية خلال العدوان، وأصيب العديد منهم بإعاقات متنوعة، ما يرفع من إشكاليات المؤسسات التعليمية في التعامل معهم بسبب ضعف مواءمتها للتعامل مع الطلبة من ذوي الاحتياجات الخاصة.
كذلك، فإنّ تدهور الحالة النفسية للأطفال نتيجة للخبرات الصادمة أثناء العدوان على القطاع، وزيادة اكتظاظ الطلبة في الصف الواحد وزيادة نسبة المدارس التي تعمل بنظام الفترتين، لا سيما بعد الدمار الذي لحق بها خلال العدوان، ونزوح العائلات الغزية من المناطق الحدودية والمناطق التي لحق بها دمار واسع وتركزها في مراكز المدن، سترفع من تعداد الطلبة في مدارس تلك المدن، وستلقي بظلالها السلبية على قدرة الطلبة على التحصيل العلمي.
قطاع السكن
بحسب الإحصائيات الرسمية الفلسطينية، فقد دمّر الاحتلال الإسرائيلي خلال عدوانه الأخير نحو مئة ألف بيت ومنشأة بشكل كلي وجزئي، من بينها 18 ألف وحدة سكنية، كما أدت الحرب إلى تشريد نحو 10 آلاف عائلة غزية، ولا زال هؤلاء ينتظرون عملية إعادة إعمار منازلهم ليعودوا إليها مرة أخرى.
وكان مركز الميزان لحقوق الإنسان، قد أكّد في تقرير سابق له، أن الكثافة السكانية في قطاع غزة بلغت 4661 فرداً في الكيلومتر المربع الواحد، كما بلغ متوسط كثافة السكن 1.6 فرد للغرفة، بينما يعيش 9.6 في المئة من سكان القطاع في مساكن ذات كثافة مرتفعة بواقع 3 أفراد في الغرفة الواحدة.
ولفت التقرير إلى الأسباب التي تزيد من أزمة السكن، وهي الاعتداءات المتكررة من الاحتلال، وما ينتج عنها من تدمير للمنازل والبنية التحتية، بالإضافة الى سوء الأوضاع الاقتصادية، وغياب المصادر التمويلية الكافية، إضافة للتأخير في المشاريع التي تنفذها المؤسسات الدولية، نظراً لأنها تتطلب الحصول على الموافقة الإسرائيلية، وأخيراً ندرة وقلة الأراضي في القطاع، وارتفاع أسعارها.
قطاع الصحة
خلال عدوان صيف العام 2014، استهدف الاحتلال الإسرائيلي 36 سيارة إسعاف في غزّة، 6 منها دُمّرت بالكامل، كما استهدفت إسرائيل 12 مستشفى، و24 مركز رعاية أوليّة.
وقدّر الفريق الهندسي في المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار- بكدار، حجم الخسائر في قطاع الصحة، جراء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بأكثر من 90 مليون دولار.
وتنعكس أزمة الكهرباء في القطاع بالسلب على القطاع الصحّي، لا سيّما أنّ زيادة ساعات انقطاع التيار الكهربائي يُنهك المولدات الكهربائية في مرافق وزارة الصحة، وله تداعياته الخطيرة على عمل الأجهزة الطبيّة في حضانات الأطفال، التي تحتضن نحو 113 من الأطفال الخُدّج وأجهزة غسيل الكلى التي تعالج نحو 500 مريض لثلاث جلسات أسبوعياً، والعنايات المكثفة التي تحتضن أكثر من 100 مريض بحاﻻت حرجة.
كما تهدد أزمة الكهرباء 5 من بنوك الدم والمختبرات وعنايات الحروق وثلاجات التطعيمات، ونحو 45 غرفة للعمليات الجراحية، وعمليات النساء والوﻻدة، وغيرها من الأنظمة الصحية التي تعتبر صمام أمان للخدمات الصحيّة والصحة العامة للمجتمع الفلسطيني ككل.
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -